تــاريـــخ الأقبــاط
كلمة أقباط تنحدر من الأصل اليوناني "ايجبتوس" والتي هي بدورها منحدرة من كلمة "ها كا بتاح" وهي واحدة من أسماء منفيس أول عاصمة في تاريخ مصر القديم. أما الاستخدام الحديث لكلمة "قبطي" فيعني مسيحيو مصر كما يستخدم هذا اللفظ للدلالة على آخر مرحلة من مراحل اللغة المصرية "القبطية". كما أنه يطلق أيضا على الفن والعمارة التي ظهرت مع دخول مصر في العصر المسيحي.
الفترة البطلمية: من 330 – 30 ق.م
بعد أن حكم الفراعنة مصر لمدة عدة آلاف من السنوات قبل التاريخ، تم إستعمار مصر بواسطة العرب والفرس ولكنهم لم يتركوا تأثيراً يُذكر على الثقافة المصرية. ثم غزا الاسكندر الأكبر مصر في سنة 332 ق.م وأسس مدينة الاسكندرية على الطراز الاغريقي.
هذا وقد أحكم المقدونيون البطالسة سيطرتهم على البلاد بعد حكم الاسكندر الأكبر. وفي خلال 300 عام من حكمهم، إستوطن كثير من اليونانيين في مدينة الاسكندرية التي انتعشت كمركز إشعاع للثقافة الهيلينية، الفسلفة، الفنون والتجارة. وبينما كان اليونانيون هم الطبقة الحاكمة كان للمصريويين دور هام في الحياة العامة والفنون وقد شجع الحكام الرومانيون ذلك.
الامبراطورية الرومانية: من 30 ق.م – 395 ب.م
كان لمصر إستقلال اقتصادي في الحكم البطلمي ولكن عندما غزا الرومان مصر سنة30ق.م، تم الحد من هذا الاستقلال اذ أعلن الرومان أن مصر مقاطعة رومانية وتم الاستيلاء على محصولاتها الزراعية وفرض الضرائب عليها. وقد كانت هذه الكوارث الاقتصادية سببا لانتعاش الحياة الروحية عند المصريون وزيادة إيمانهم بالحياة بعد الموت "البعث" كمفهوم ديني عرفته مصر منذ القدم.
إضطهد الرومان عدة ديانات في القرنين الثالث والرابع وعلى الأخص الديانة المسيحية. وقد كان عهد دقلديانوس هو ذروة الاضطهاد الذي لاقاه المسيحيون وقد بدأ التقويم القبطي في بداية عصره "بداية عصر الشهداء". وقد تولى دقلديانوس سنة 284 م. وقد اُعتبرت هذه السنة، سنة 1 للشهداء على حسب التقويم القبطي. وربما يرجع إضطهاد الرومان للمسيحية بسبب سوء فهم حيث كان يُظن بوجود تعارض بين القيصر وبين الديانة المسيحية وخاصة أنه كان الأقباط يتولون مناصب قيادية في الدولة وفي الجيش.
العصر البيزنطي: 395 – 641 م
أنهى الامبراطور قسطنطين الاضطهاد ضد المسيحيين في سنة 313م بواسطة مرسوم ميلان الذي تبنى مصالحة دينية واسعة. وفيما بعد تبنى الامبراطور قسطنطين الديانة المسيحية كديانة رسمية للدولة وللامبراطور.
وفي منتصف القرن الرابع كانت الكنيسة غاية في التنظيم في مصر كما تم تدوين الكتاب المقدس وكتب القراءات باللغة القبطية. وكانت الأحرف اليونانية هي المستعملة في تدوين اللغة القبطية بالاضافة إلى بعض الأحرف من اللغة المصرية. كما إنتشرف وإزدهرت البراري بالرهبان.
وتعتمد الكنيسة القبطية على التعليم الذي تم إستلامه من القديس مار مرقس الرسول، وهو أحد الانجيليين الأربعة، بعد صلب رب المجد يسوع المسيح وقيامته بسنوات قليلة. وقد إنتشرت المسيحية في مصر في خلال نصف قرن منذ وصول القديس مار مرقس الرسول إلى الاسكندرية وقد عثر على نسخة من العهد الجديد في البهنسا بوسط مصر ويرجع تاريخها إلى سنة 200م. كما تم العثور على أجزاء من الانجيل حسب البشير يوحنا مكتوبة باللغة القبطية في صعيد مصر ويرجع تاريخها إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي. والكنيسة القبطية كانت موضع نبؤات كثيرة في العهد القديم. كما أن مصر ذُكرت في الكتاب المقدس مرات كثيرة كما أنهاإستقبلت العائلة المقدسة اضافة الى أن كثير من الأنبياء ورجال الله في العهد القديم قد ذهبوا اليها. أما النبؤة في أشعياء 19:19 فتقول "في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها".
وقد حافظ الأقباط بكل القوة على هويتهم الدينية والعرقية في العالم المسيحي. كما أن للأقباط تاريخ عريق في الحفاظ على العقيدة. أما مجمع نيقية الذي تعترف به كل الكنائس فكان بطله هو القديس أثناسيوس الرسولي بابا وبطريرك الاسكندرية رقم 20 في الفترة من 327م – 373م. كما أن العائلة المقدسة قصدت مصر وقت الهروب من هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل "من مصر دعوت إبني"مت15:2.
قدم الأقباط الكثير إلى المسيحية. فمنذ البداية تصدى الأقباط لكل البدع والهرطقات فقدم الأقباط الآف الكتب والدراسات ضد هذه البدع. أما الكتاب المقدس فقد تم ترجمته إلى اللغة القبطية في القرن الثاني الميلادي. وتحتوي المكتبات العالمية والمتاحف على الآف القطع من الكتب القبطية.
وتعتبر مدرسة الاسكندرية هي أقدم مؤسسة علمية في العالم. ففي سنة 190م كانت مكتبة الاسكندرية التي رأسها في هذا الوقت بنتينوس هي أهم مدرسة دينية في العالم في العلوم المسيحية. وقد تتلمذ في هذه المدرسة الكثير من الآباء الأساقفة وعلماء المسيحية من شتى بقاع العالم مثل أثناسيوس، إكليمندس، ديديموس الضرير وأوريجانوس الذي يعتبر أبو الدراسات الكتابية المقارنة. وقد كتب أوريجانوس أكثر من 6000 مدونة حول الكتاب والعقيدة إضافة إلى مدونته السداسية نظرا لأنها كتبت بستة لغات. وقد زار مكتبة الاسكندرية القديس جيروم للحوار والمناقشة مع علماء هذه المدرسة. وقد إهتمت مدرسة الاسكندرية بتدريس العلوم الأخرى مثل الرياضيات والعلوم الفيزيائية والعلوم الانسانية إضافة إلى العلوم الدينية. أما نظرية الدراسة بالاسئلة والأجوبة فقد بدأت في هذه المدرسة التي سبقت "برايل" بـ 15 قرنا في إختراع تقنية للكتابة البارزة لتعليم المكفوفين أيام ديديموس الضرير.
الرهبنة أيضا ولدت وترعرعت وإزدهرت في مصر على يد آباء الكنيسة القبطية الأوائل الذين سكنوا الجبال والمغائر وشقوق الأرض وتركوا كل شئ من أجل اسم المسيح. وقد ظهرت الرهبنة في السنين الأخيرة من القرن الثالث الميلادي وإزدهرت في القرن الرابع. ويعتبر القديس الأنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان في العالم كله وهو قبطي من صعيد مصر. أما الأنبا بولا أول راهب في العالم فهو أيضا قبطي. وإشتهر أيضا الكثير من الآباء الرهبان مثل الأنبا مكاريوس، القديس موسى الأسود ومار مينا العجايبي.. الخ. وفي نهاية القرن الرابع الميلادي زُينت البراري المصرية بمئات من الأديرة العامرة وآلاف لا تُحصى من القلالي في الجبال والصحاري. ولا يزال الكثير من هذه الأديرة عامرا بنعمة المسيح في عصرنا الحالي.
يُذكر أن القديس باسيليوس الذي نظم الرهبنة في أديرة آسيا الصغرى كان قد إعتمد على نظام الرهبنة المصري عندما زار مصر في سنة 357م. القديس جيروم الذي ترجم الكتاب المقدس الى اللاتينية زار مصر في سنة 400م. وكثيرون آخرون من الذين نظموا الحياة الديرية في العالم في القرن السادس نهلوا من نفس نظام الدير وحياة الشركة الرهبانية التي أسسها القديس باخوميوس في مصر.
هذا ومع الأسف فقد تم الصاق تهمة باطلة بالكنيسة القبطية المصرية في القرن الخامس الميلادي فيما يسمى "مجمع خلقيدونية". ربما يكون الذين اجتمعوا في هذا المجمع فهموا الكنيسة القبطية بطريقة صحيحة ولكنهم أرادوا ابعاد الكنيسة القبطية وعزلها هي وبطركها. ورغم كل ذلك لاتزال الكنيسة القبطية محافظة على عقيدتها كما تسلمتها من الآباء ووفقا للكتاب المقدس. ورغم سوء الفهم والخلاف الذي وقع في هذا المجمع إلا أن الأمل مازال معقودا على وحدة الكنيسة في قلوب كل المؤمنين. وقد سعى قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك 117 في عداد بطاركة الاسكندرية في إقامة حوار مع كرسي روما وقد تم الخروج بوثيقة مشتركة إستنادا على آراء آباء الكنيسة قبل الانقسام الذي حدث في مجمع خلقيدونية.
وحاليا فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية هي أحد مؤسسي مجلس الكنائس العالمي منذ عام 1948. كما أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عضو في مجلس كنائس أفريقيا والشرق الأوسط. ومازال هناك حوار جاري مع مختلف الكنائس.
ربما يعتبر أعظم ما يميز الأقباط هو الصليب الذي حملوه طول التاريخ وحتى الآن. فقد عانى الأقباط من الاضطهاد من الكثيرين. فكاروز الديار المصرية وهو القديس مار مرقس الرسول استشهد بأن تم سحله في شوارع الاسكندرية في 8 مايو سنة 68م حيث قام الرومان بتعذيبه وسحله في شوارع الاسكندرية يوم الاثنين بعد عيد القيامة مباشرة. ومنذ ذلك الوقت وكل الحكام، تقريبا، إضطهدوا الشعب القبطي. فقد بدأ الاضطهاد من الرومان ثم بواسطة الملكانيين أتباع ما يسمى بـ "مجمع خلقيدونية" في سنة 451م. ثم العربالذين إحتلوا مصر في عام 641م وحتى الآن. ونظرا للاضطهاد الشديد الذي رآه الأقباط فقد إعتمدوا على التقويم الخاص بهم والذي يسمى تقويم الشهداء والذي بدأ في 29 أغسطس سنة 284م. (بداية حكم دقلديانوس) الذي إضطهد الأقباط إضطهاداً شديداً جداً حتى أن الأقباط إعتبروا أن هذا هو بداية التاريخ القبطي وتُسمى السنة القبطية بسنة الشهداء.
وقد بدأ التغيير الواضح للتركيبة السكانية لمصر مع بداية الألفية الثانية فقد عانى الأقباط من دفع الجزية وإضطهاد على يد الحكام العرب الذي تم في عهدهم تخريب معظم أديرة وكنائس مصر أيضا تم حظر التحدث باللغة القبطية إضافة إلى إضطهاد شديد مما تسبب في أنه مع القرن الثاني عشر أصبح أغلب سكان مصرهم من المسلمين.
أما القرن التاسع عشر فقد شهد تحسنا في حالة الأقباط في مصر تحت حكم محمد علي وأسرته. فقد شهد عام 1855 الغاء الجزية التي ظل الأقباط يدفعونها منذ الغزو العربي وبدأ بعدها السماح للأقباط بالانخراط في الجيش. أما في عام 1919 وقت ثورة مصر التي أعطتها شكلها الحديث فقد كان للأقباط دور هام وفعال في معظم نواحي إدارة البلاد. وقد تفاعل الأقباط مع كل الأحداث التي مرت بالبلاد في هذا الوقت.
لا يوجد احصاء دقيق وموثوق لعدد الأقباط فتتراوح الاحصائيات بين 6 مليون (وهي إحصاءات حكومية غير سليمة على الاطلاق)وإحصائيات أخرى تقول بأن عدد الأقباط حوالي 20 مليون. وعلى الأرجح أن الرقم الصحيح لعدد الأقباط يقع بين هذا وذاك فمعظم الأطراف المعتدلة تقدر عدد الأقباط بـ 12 مليون حاليا اضافة الى حوالي 1.5 مليون بالمهجر. وقد نجح الأقباط في تشييد كنائس كثيرة بالمهجر في الولايات المتحدة، كندا استراليا وأوروبا وآسيا وأفريقيا. ويعيش الأقباط في كل محافظات مصر ولكن يقل تواجدهم في محافظات الدلتا في شمال مصر ويتركز تواجدهم في الصعيد وخاصة في محافظات المنيا، أسيوط وسوهاج.
ومازال الاضطهاد قائما حتى الآن فبعد أن ظل الأقباط قرونا يدفون الجزية للعرب ثم للأتراك ويتعرضون فوق ذلك لاضطهاد على حسب ما يحلو للحاكم العربي أن يوقعه. فمازال الأقباط يعانون أشد المعاناة في حرية العقيدة. فبناء الكنائس تشوبه معوقات كثيرة مثل ضرورة أن يوافق رئيس الجمهورية على بناء كنيسة جديدة وحديثا أصبح موضوع هدم كنيسة وبناءها مرة أخرى وترميمها من اختصاص المحافظين ويجب التنويه الى أن دور العبادة الأخرى (المساجد) لا تخضع لهذه الشروط. كما يتعرض الأقباط الى تمييز ديني واضح واضطهاد يصل الى درجة المذابح في بعض الأحيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق