الأربعاء، 25 أبريل 2012

عرائس الحسد


 
"عرائس الحسد" لم تكسر عين العولمة

كثيرون يخشون الحسد, حتى وإن لم يظهروا تلك الخشية ولكل شخص طريقته في منع الحسد عن نفسه.. هناك مثلاً من يقرأ سورة "الفلق" أو "يخمس" أمام الحاسد أو من ورائه »بخمسة وخميسة«.. أو يكتب على سيارته "يا حاسدين الناس ما لكم ومال الناس".. المهم أن القاعدة لا تستثنى أحدًا متعلمًا كان أم غير متعلم.. و»العين فلقت الحجر«.. وثقبت منبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقولون.

لذلك تفنن الناس في صناعة عرائس سحرية وطقوس معينة لتأخذ الحسد وتبعده, أو تمنع نظرات الحسد الأولى القاتلة لتصبح "عين الحسود فيها عود".. وترديد مقولات "رقيتك من عين فلانه (يذكر اسم الحسود) ومن عين أمك وأبوك ومن عين اللي شافوك ولا صلى على النبي.. لا صلى الله عليهم, وعينهم تتردد عليهم.. الله أكبر.." ثم توضع العروسة على النار مع الشبه والفسوخة.. وبعد إتمام الحريق يمر المحسود من عليها سبع مرات.
فما حكاية هذه العرائس التي تمنع الحسد وتحمي المحسود? والتي رغم أننا نعيش في عصر الفضاء والتكنولوجيا و »العولمة« إلا أن الكثير من طرقها ما زالت قائمة.

نظرة قاتلة
الدكتور ممتاز ضياء أستاذ الأدب الشعبي بجامعة عين شمس يفسر اهتمام الناس بالظاهرة من منطق أن نظرة عين الحسود تكاد تكون في كل أنحاء العالم.. كما قال المستشرق بلاكمان.. لذلك كانت عروسة الحسد وما زالت رقية يعتقد فيها المصريون منذ الطفولة وحتى الكبر بقدرتها السحرية لمنع الحسد.. ويتلخص عملها في قص صورة إنسانية من الورق, ثم يذكر اسم كل الناس المحتمل أن يرتبط بهم الحسد.. ويثقبون شكل العروسة بإبرة غشيمة (أي ليس بها عين), وأثناء التخريم تقال ألفاظ تأخذ الحسد أو النظرة القاتلة وتبعدها عن الإنسان نفسه.. وهناك أيضًا عرائس سحرية تستخدم في طقوس معينة لاستعجال الحبيب مثلا أو الحبيبة, وعرائس أخرى تصنع من الطين والشمع.. وذلك عند قصد إلحاق الضرر بشخص آخر والانتقام منه.

وعملية منع الحسد في مجملها تحمل صفة الفناء عند فكه, حتى يحل السحر ويزول المرض.. ودائمًا ما يكون مصير العروسة هو الفناء بما حملته من أنظار الحساد بالحرق, وبذلك يضمن المحسود حياة سعيدة من كل سوء.. كما يلاحظ أن ورقات السحر على شكل العروسة غالبًا ما تكون مزدوجة, حيث يحتمل أن يكون سببه رجلاً أو امرأة.. فالعروسة في كل مظاهرها وأشكالها ترتبط من بعيد أو قريب بأمور تتصل بالسحر والإيهام مثل عروسة الخشب أيضا التي يصنعها الفلاحون وتعلق على أبواب منازلهم وكذلك على جدران الدوار, اعتقادًا منهم بأنها تحميهم من الحسد, وأن الحاسد ينظر إلى العروسة ولا ينظر إلى البيت وما فيه من مواش وحيوانات.. وهذه العادات ما زالت منتشرة في بعض القرى بقصد إغاظة الخصم.. وبذلك تؤدي وظيفة سحرية وقائية.. وهذه العقيدة - حتى الآن - مترسخة في عقول بعض الناس الشعبيين منهم والمتعلمين.

عروسة الزار
ويذكرِّ الدكتور إبراهيم شعلان أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة بعروسة الزار التي تتلقى مس الشياطين والحساد وترضي الأرواح الخبيثة.. فهي عروسة من القماش تحشى بالقطن وتزين أحسن زينة, وتوضع وسط صينية كبيرة عليها مأكولات من اللوز والزبيب والحمص, بعد أن يلبسوها "طرحة" وتكحل عيناها ويصفف شعرها.. وأثناء الرقص والغناء تقوم من عملت لها الزار وتحمل هذه العروسة وتزف معها مصحوبة بالغناء.

وفي الماضي كانوا يقومون بحمل طفلة حقيقية بدلاً من العروسة المصنوعة, ولكن الناس خافوا على أطفالهم أن يمسهم الجن, فأبعدوا الأطفال, وحل محلهم عروسة تصنع خصيصًا لذلك وكانت الصينية وما عليها من مأكولات ووسطها العروسة تحمل على الرؤوس في زفة الحفل وهم يغنون.. "ركوشة هانم ست الهوانم.. حلوة ركوشة داخلة المدرسة.. حلوين يا هوانم يا بنات الهندسة".

ولعل وظيفة ركوشة في الزار تماثل وظيفة عروسة الحسد وغيرها من العرائس التي تشفي المريض أو المريضة من قرين الإنسان الذي يولد معه, ويمكن أن يصيبه بمس جني كما يعتقد الناس, وهي إحدى بدع الفاطميين التي انتشرت وراجت وما زالت آثارها باقية حتى الآن.. ومع ذلك لا استطيع أن أدعي أن مثل هذه التعاويذ والعرائس السحرية لها مفعول قوي في طرد السحر.. ولكن أريد ان أوضح أن الإيهام كانت تتم من خلاله حالة شفاء لكثير من المرضى.. والمثير أنه حالة نفسية يباشرها الآن الطب الحديث في القرن العشرين.

ويحكى لنا عبد الغني الشال عميد كلية التربية الفنية سابقًا أنه من العادات الشعبية التي شاعت عند تجهيز جهاز العروسة وتفصيل المراتب والأغطية وغيرها, هي أن يصنع المنجد عروسة من قماش يهديها لأطفال المنزل.. وكأن لسان حاله يدعو للطفلة بالزواج.. وتكون العروسة المصنوعة فألاً حسنًا لها, يحميها من الحسد, ويعجل بعرسها, وتصبح بمثابة تميمة تحفظها من كل شر عين.. والعجيب أنه وجدت مثل هذه العرائس التي كانت تلعب بها البنات في المقابر المصرية القديمة.

عروسة شم النسيم
ويستطرد الدكتور عبد الغني الشال: هناك أيضا عروسة الخماسين وشم النسيم التي اهتم بها الفلاحون لطرد الأرواح الشريرة من بيوتهم والتي ترتبط "بالوخم" الذي يؤدي الى وجود البراغيث وكذلك الحسد.. وهى عبارة عن عروسة تحشى بالقش والخرق القديمة.. ويجتمع الأطفال في ليلة الخماسين ويزفونها في مركب الليل في ترعة أو قناة القرية حيث يتسارع أولاد كل حي بعمل دميتهم.. وقبل شروق الشمس يخرجون إلى شاطئ الترعة فرحين, ويحملون عروسة الخماسين على حديدة الفرن ويخلعون ملابسهم.. ويوقدون العروسة بالنار ويلقونها في الترعة وهم معها يسبحون حتى تحترق تمامًا ويغنون:

يا عروسة الخماسين.. كل سنة وأنتم طيبين
يا عروسة الخماسين.. سنة بيضة على الفلاحين

إن إحساس الرجل الشعبي بأصالته دفعه أن يستلهم العروسة لتأخذ الشر من جذوره وتخلف الهدوء والسلام.
أما بسيوني كمال, فله أبحاث ودراسات في التراث الشعبي, ويذكر بالعرائس المعلقة التي تعلق للزينات في العربات والمنازل وغيرها.. وهي منتشرة في جميع أنحاء العالم, وترتبط هذه العرائس بأحداث اجتماعية وأزياء تاريخية خاصة.. فهناك بعض العرائس تمثل الكونتيسة دي بمبادور عشيقة أحد الملوك اللواوسة, فالعروسة هنا تحكي قصة تاريخية وزيًا خاصًا يرتبط بحادثة معينة..

كما نجد كذلك في أسبانيا عرائس تمثل الزي الغجري مثل كارمن, ثم نشاهد العروسة وهي تلبس الزي الوطني الشعبي في جزر صقلية وساردينيا.. وكلها تشير إلى أحداث اجتماعية تاريخية, وربما أحداث عقائدية أيضًا.. وتعليق هذه العرائس, إنما يرجع للأصل الأسطوري الأول وهو استقبال النظرة الأولى أو الصدمة القوية الأولى من عين الحسود, فتحمى العروسة وما حولها من كائنات وعربات وغيرها.. ومثلها تجد عروسة البرقع التي كانت توضع على أرنبة الأنف وتتميز بالزركشة وجمال الشكل حتى تلفت انتباه المشاهد إليها دون أن ينظر نظرته الأولى التي تحمل معاني الحسد لهذه المرأة.

عروسة المسجد
والعجيب أن المساجد لم تخل من تلك العرائس لغرض حمايتها من الحسد, فهناك ما يعرف بعروسة الجامع ذات الأشكال الجمالية المعمارية الهندسية.. فأحيانًا يقال لها عرائس المسجد, وأحيانًا أخرى يقال "شرفية" الجامع, والبعض يسمونها عرف الديك لقربها من تدرج أطراف هذا العرف, وهي في كل التسميات تصبح رمزًا.. وهي في أعلى المسجد تشير إلى السمو الذي يلجأ له الديك لأعلى مكان ليصيح, ليكون كالمؤذن حينما يصعد إلى مكان عال في مئذنة المسجد ليذكر دعوة الله للصلاة.. وسميت بالعرائس نسبة إلى ما تعبر به أشكالها من تصفيف وتنسيق الواحدة بجوار الأخرى.. وكأن الأيادي متماسكة لتأدية رقصة جماعية.. كما أنها أشبه بالمتاريس التي يختفي وراءها الجنود لمهاجمة العدو.. وعلى كل فوجودها في أعلى المسجد من شأنه أن يجذب النظر إليها أول الأمر.. وبذلك تختطف عيون الحاسدين وتحجزها وتقيد مفعولها الذي يخشى منه على قدسية المسجد وعظمته وجماله وأهميته.

ويتذكر بسيوني عروسة القمح.. والتي تصنع عند أول ظهور السنابل, في هذه الأيام بمصر في كل عام.. وشكل هذه العروسة يرمز إلى الإخصاب لأنها مصدره, وتعبر عن نجاح المحصول الجديد.. فهي قربان للقوى الخفية التي تمد الزرع بالكثرة الوفيرة.. وتعلق عرائس السنابل منعًا للحسد, حيث أن السنابل تكون هيئة الجسم نفسه, ومكان تعليقها يرمز للرأس, ويداها غالبًا ما تكون في وضع أفقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق