الجمعة، 24 فبراير 2012

حركة الاصلاح الدينى (مارتن لوثر)


حركة الاصلاح الدينى (مارتن لوثر)
شهدت أوروبا في القرن السادس عشر، أعظم ولادة لحركة الإصلاح الديني البروتستانتي في تاريخ أوروبا،
تلك الحركة التي انطلقت من ألمانيا بزعامة ( مارتن (لوثر) 1483م ـ 1546م) ثم انتقلت إلى سويسرا بزعامة
 (أولريخ زونجلي 1484م ـ 1531م ) وإلى فرنسا وجنيف بزعامة (جون كالفن 1509م ـ 1564م).
لقد سبق ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي ولادة عدة حركات دينية أسهمت فيها، كـ (حركة الفلدانيين)
و (حركة الْهُسيين) في كل من فرنسا وإنكلترا وبوهيميا، فجاءت أفكار (لوثر) و (زونجلي) و (كالفن) بوصفها
 امتداداً لأفكار (يوحنا هس)، و ( يوحنا ويكلف) و (جيروم)،و (لورد بكهام ـ يوحنا أولدكاسل ـ ) ولا يغيب عنّا
 الدور الهام لعصر النهضة في إنتاج جملة الشروط الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية
 التي نجم عنها ولادة حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. لقد استفادت حركة الإصلاح الديني من
 النهضة بحدود معينة، واتخذت مواقف مغايرة لها إزاء عديد من الموضوعات ،كالفنّ والأدب والفلسفة وقضايا
تتعلق بالإنسان كقضيتي (الفردية) و (الحرية).
وعليه فقد تميّز الإصلاح الديني في القرن السادس عشر عن النهضة في القرن الخامس عشر بعديد من الميزات
، وفي مقدمتها التركيز على إصلاح الدين المسيحي والكنيسة، والانفصال عن روما فنشط الخطاب الديني والقومي
، ليصبح العنوان المحبب في عصر الإصلاح الديني البروتستانتي، فلا عجب من رفع شعارات تدعو إلى بناء
 كنائس دينية وطنية مستقلة عن الكنيسة الكاثوليكية في روما، أو من الدعوة إلى الانفصال عن الإمبراطورية
الرومانية ـ إمبراطورية العصور الوسطى ـ .
نتناول هذه الدراسة ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في بعض الولايات الأوروبية كنموذج أبرز للحركة
 في عموم أوروبا في القرن السادس عشر، ونظراً لخصوصية ولادة الحركة في كل ولاية من الولايات التي تنتمي
 إليها ، فقـد آثرنا استخدام
أسلوب ربط العرض بالأحداث ربطاً تاريخياً بهدف الوقوف على طبيعة كل مرحلة من مراحل حركة الإصلاح
 الديني البروتستانتي ،في القرن السادس عشر، ابتداءً بألمانيا فسويسرا ثم فرنسا وجنيف، فضلاً عن أن التغيرات
التي مرّت بها حركة الإصلاح تستدعي منا الإحاطة بها إحاطة تمكننا من معرفة أهم جوانبها بغرض الكشف عن
طبيعة تلك الحركة وما انطوت عليه من عناصر تتصل بمفهوم الإنسان بأبعاده الدينية والدنيوية والأخلاقية عند أبرز
 زعيمين من زعمائها وهما (مارتن لوثر) و (جون كالفن) .
 بداية الإصلاح:
مهّدت عدة عوامل دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وفكرية وفنية، السبيل لولادة حركة الإصلاح
 الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر بزعامة (مارتن (لوثر) و (جون كالفن) مروراً بـ (زونجلي)،
 ففي ألمانيا طلب مجلس (الدايت) في أوجسبورج بضرورة إعادة المبلغ الكبير من المال إلى ألمانيا من روما
في اليوبيل عام 1500م، وهو ما كانت تحوّله ألمانيا إلى روما في عهد البابوية آنئذ إذ كان البابا قد سحب من
 ألمانيا دخلاً يزيد مائة مرّة عما يستطيع هو نفسه أن يجبيه منها حسب تقدير الإمبراطور (ماكسمليان) لذلك،
 وفي عام 1510م طالب الألمان بضرورة وضع حد لتدفق الأموال الألمانية إلى إيطاليا، وبمعنى أوضح إلى
 نهضة إيطاليا التي تموّل الشعر والفن بالذهب الوارد إليها من وراء جبال الألب.
وثمة تغيرات ومواقف أدت إلى تعميق التناقض بين الجماهير والكنيسة الكاثوليكية والبابا، والإسراع نحو إشعال

 فتيل الثورة، فتناقض رجال الدين مع دعوة الجماهير إلى التمرد على البابا، ولّدَ روحاً ثائرة من الكراهية والحقد
 بين الكنيسة ورجال الدين من جهة، والجماهير من جهة أخرى، في مختلف أرجاء ألمانيا، كما صدرت كتيبات
عنيفة اللهجة ضد الكنيسة والكرسي الأسقفي الروماني، ناهيك عن التناقص بين بعض رجال الدين من الرهبان
 والقساوسة في أبرشياتهم مع كبار رجال الدين بسبب الترف الذي يعيشون فيه، وهكذا فقد كان الوضع مهيئاً
للثورة ضد روما وكنائسها الموالية في ألمانيا، فكانت مجموعة من العوامل والأسباب التي سبق ذكرها، تتجمع
في إعصار يقذف بأوروبا إلى أعظم فورة لم تشهدها منذ غزو البرابرة لروما، ولعل إفراط الكنيسة الكاثوليكية
 في الظلم، ونهب أموال الولايات الأوروبية ،وتدخل رجالها في كل شيء إلى حد سمحت فيه الكنيسة لنفسها
 حتى بالتنقيب عما يعتمل في قلوب الناس التي سترها الله ،وإنزال أشد العقوبات قسوة على من يتهمونها بالخروج
 عن مبادئ الدين ،الأمر الذي أدى إلى تحريك الشعوب ومفكريها في مواجهة تلك السياسة الظالمة، وليس بخاف
أنّ سياسة فرض الضرائب وجباية الإتاوات التي هي من خُلق الجباة العشارون، وليس من أخلاق رجال الدين
 الأتقياء، فضلاً من منح بعض الأشخاص سلطان الله في مسح الخطايا لما تقدم منها وما تأخر بعد الاعتراف،
وطباعة صكوكاً تباع وتشترى لنيل الغفران، قد ولّد حالة تمرد وانفجار تعود بداياتها الأولى إلى مطلع القرن
 الثالث عشر، القرن الذي وجدت فيه بذرة النهضة الأوروبية اللاحقة. الّتي مثلت نهضة للإرادة الإنسانية ويقظة
 للعقول، أسهم فيها بنصيب وافر اتصال الغرب بالشرق وما نجم عن ذلك من تمازج ثقافي وتأثّر كبار المفكرين
الأوربيين بفكر أساتذة الإسلام ومشاهيره، كـ (الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد) وغيرهم، وما نتج عن
 ذلك من اعتقاد الأوروبيين: "بأن لا سلطان لأحد من رجال الدين على القلب وأنّ لا واسطة بين الله والعبد وأن
 الله قريب ممن يدعوه ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه" ( ) ،وبأنه غافر الذنوب وحده، والمجزي والمثيب وحده
. وأما المجاهرة بالدعوة للإصلاح الديني منذ القرن الخامس عشر، حتى ولادة حركة الإصلاح البروتستانتي
 في العقد الثاني من القرن السادس عشر قد ابتدأت بدعوتي (جيروم) و (هس) اللذين أعدما حرقاً بالنار بقرار
 من (مجمع كونستانس) الذي انعقد من سنة 1414م إلى سنة 1418م، ذلك لأنهما دعيا الكنيسة إلى عدم الأخذ بما
 يسمى بسر الاعتراف، مبينين أنّ الكنيسة ليس لها سلطان في محو الذنوب والآ ثام أو في تقريرها، وإنما التوبة
مع رحمة الله هي التي تمحو الآثام وتطهر النفس من الخطايا، كما كان لدعوة (ويكلف) أثرها في إذكاء روح التمرد
 والاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية والبابا. فقد كتب كاتب كاثوليكي متعصب يصور موقف (هس) و (جيروم)
 من المجمع الذي انعقد بشأنهما قائلاً:
"… وكان المجمع قد عرض عليه ـ على هس ـ صورة الرجوع عن (ضلاله) فأبى أن يمضيها وبقي مصراً
على غيّه… على عناده ورفيقه جيروم حتى نالا العقاب نفسه" ( ) ،وبعد ذلك ابتدأ رجال الإصلاح بدعوة هادئة
 لتحقيق الإصلاح،كما فعل (أرازموس 1465م إلى 1536م) إذ دعا الناس إلى قراءة الكتاب المقدس وإلى تهذيب
 عقولهم وتنمية مداركهم، فجاءت دعوته موجهة إلى الحكام المستنيرين وإلى رجال الكنيسة أنفسهم… نابذاً
استخدام العنف سبيلاً لتحقيق الإصلاح،وليس كما فعل (لوثر) في ثورته العنيفة لاحقاً وما أسفرت عنه من
 مَسٍّ بسلطات الكنيسة الكاثوليكية والنيل منن قداستها.
ولعل دعوة (أرازموس) للقيام بإصلاح سلمي للكنيسة كانت قد رددتها دعوة (توماس مور 1478م ـ1525م)
في إنجلترا إذ دعا إلى تحقيق الإصلاح الكنسي بالطريق السلمي فدعا بنفسه إلى وجوب احترام سيادة البابا ،
بوصفه السلطان الديني على الجميع، دون أن يتمكن من قطف ثمار تلك الدعوة، لكن انتقال أفكار الإصلاح من
 المفكرين إلى الشعوب واصطدام الكنيسة بآراء المفكرين الثوريين وبعض الأمراء، جعل انتقادهم للكنيسة عنيفاً،
وجعل خطوات الدعاة الجدد للإصلاح (لوثر)، (زونجلي) و (كالفن) أسرع مما يريد أصحاب الاتجاهات السلمية
 من أمثال (توماس مور ) و (أرازموس).
لقد كانت البلاد الألمانية تعيش في مخاض الثورة السياسية ضد الإقطاع، وضد النظام الاجتماعي الذي كان نظام
الحكم الأميري قائماً على أساسه، فسلسلة الأحداث العنيفة التي شهدتها ألمانيا قبيل الإصلاح بنصف قرن، كانت
في جوهرها اجتماعية وسياسية مع احتوائها قليلاً أو كثيراً على عناصر دينية، فضلاً عن تجذّر الروح الثورية
 المترافقة مع النمو الاقتصادي الذي شهدته ألمانيا في أواخر العصر الوسيط من قوة ازدهار الصناعة، واتجاه
 التجارة نحو رفع الأسعار واحتكار الثروة في أيادي طبقة التجار، خصوصاً الشركات التجارية الكبرى وانعكاس
 ذلك سلباً على القداسات الدينية في المدينة والبلد(1)، حتى أصبحت فكرة الثورة العظمى على الكنيسة خلال
 الخمسين سنة السابقة على مجيء (لوثر)، فكرة راسخة في المجتمع، وأصبح الفلاّح أكثر المعنيين مباشرة
بتحسين شروط واقعة التعس(2) ناهيك عن أن العلاقة بين الكنيسة والدولة لم تشهد استقراراً طيلة قرون خلت
 ، وهكذا باتـت الكاثوليكيـة صاحبة المقام السامي تعاني من فقدان سلطتهـا ،
(1)-Vide ,
 Mackinnon ,J . Luther & The Reformation, Vol. III, Longmans, Green Co. London, New
York, Toronto, 1929, P.188
(2)-Ibid. , P.176.
بينما كانت قوة الأمراء قد ازدادت (1) ،حتى أن (لوثر) نفسه دعا إلى تحالف الأمراء والفلاّحين ضد البابا
ورجال الدين الموالين له، وكانت الحركات الثورية السابقة على مجيء الإصلاح الديني في القرن السادس عشر،
حركات اجتماعية وسياسية في جوهرها مع احتوائها كثيراً أو قليلاً على عناصر دينية،اتخذت في البداية شكل
حركة لتحرر القداسات من سيطرة النظام الاجتماعي والإقطاعي ،مقترنة بالطموح من أجل قيام نظام ديمقراطي
 في الدولة وإلغاء القانون الإقطاعي الذي منح القدرة والامتيازات للطبقات العليا (2).
 ( مارتن لوثر) والإصلاح البروتستانتي في ألمانيا:
ابتدأت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في ألمانيا مع (لوثر) فقد وجّه تحذيراً شديد اللهجة إلى الأمراء كي
يحترسوا من نتيجة سوء سياستهم على عامّة الناس، كما وجّه الدعوة للناس إلى الاستفادة من احتجاج الحكام في
 إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا على بيع صكوك الغفران وتحويل الأموال الطائلة إلى روما لبناء كنيسة للقديس
 بطرس فيها.
لقد جاهر (لوثر) بدعوته للانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسها البابا، والشروع في تشييد كنائس وطنية
 جديدة في ألمانيا، لم يتمكن ( ويكليف Wyekliffe) و ( هُس Huss ) ومن إشادتها قبل ذلك. ومن جهة ثانية أصرّ
 جميع المصلحين البروتستانت على أنهم غير مبتدعين للعقيدة، بل هم يستمدونها من يسوع والكنيسة القديمة،
 وهي الكنيسة الحقيقية، ويؤكدون أن روما هي التي غيرت التقليد المسيحي الصحيح فأفسدته، وعليه فقد أعلنوا
 بأنّ تقليدهم هو تقليد للمسيح نفسه(3) وفي هذا السياق يجيء رفض (مارتن (لوثر) أستاذ علم اللاهوت،
لـ (صكوك الغفران) وفاعليتها ليخلّد اسمه في التاريخ إذ اعترض على القول بأن صك الغفران يمكن أن
 يمنح لأي روح معينة ويكون له أثر لا يخيـب بمجرد اقتـران الغفران بقطـع النقـود ، بقولـه :" ما أن ترى قطـع
موقف (لوثر) من العلم والفلسفة:
بعكس تصور (أرازموس) لـ (شيشرون) وكأنه شخص ملهم من الله. وقوله:
- أرازموس - " تغلبت على نفسي بكل صعوبة لأمنعها من أن تنطلق بالصراخ: [يا قديس (سقراط)،
 صلّ لأجلنا] فإن (لوثر) قد حكم بالهلاك الأبدي على (سقراط)، كما أنه سفّه العقول الكبيرة التي لمعت في عهد
 الوثنية بعد أن رأى في فضائلها سفاهات، وفي أعمالها الخيرة الصالحة خطايا لأنها عطّلت الله ـ في نظره ـ من
 القدرة على أن يؤمّن لوحده خلاصنا. "فقد انحدروا إلى أدنى دركات الحقارة وانحطوا إلى أقصى درجات
 البغضاء في بلوغ فضائلهم الذروة من التسامي، لأنهم نزعوا على أبشع صورة من السرقة والاختلاس،
مجد الله ليتباهوا هم به"( ).
ويمضي إلى القول: "..إن الحركة الشافية في الكنيسة لا تصدر مطلقاً عن رايات فلسفية ولا أفكار بشرية محضة.
. فإن التحقيق والفلسفة والتاريخ، قد تعدّ الطريق للإيمان الحقيقي ولكنها لا تغني عنه، فباطلاً تعزل مجاري المياه
 وتصلح الآبار ما دام المطر لا ينـزل من السماء، فكل العلم البشري من دون إيمان إنما هو كقناة من دون ماء" ( ).
ولم يكتف (لوثر) بهذا الموقف، فقد عمل على إبطال المقياس الإنساني لمبدأ (أرازموس) وإحلال المقياس
الإلهي محله والازدراء بالعقل ووصفه إياه بـ "هذا العاهر"( )، وازدراء الحكمة الإنسانية التي هي غير نافعة،
 وغير ناجعة على حد سواء.
كذلك فقد كان يعد رجل المصير المكتوب والعبودية المتطرفة، فقال بالحرية المستعبدة عام 1525م. خلافاً
لما ذهب إليه (أرازموس) إذ يقول: "إما أن تكون عبداً للخطيئة، وإما أن تكون خادماً لله"( ) .
وهكذا فطريق الإصلاح رهن باستئصال القوانين والمراسيم والفلسفة والمنطق من جذورها في سبيل إحلال
 أمور أخرى محلها، فاليقين والاطمئنان اللذان يبلغهما العقل خادعان، والله لا يهمّه أن يعرفه العقل فهو
القدرة الكلية، فحتى يتمكن المرء من سماع نداء الله الذي هو نداء شخصي تماماً ينبغي له أن يشعر بضيقه
المطلق وعدمه. فما يميز الإيمان اللوثري، هو رغبته في تملك الله، فالله من أجل الإنسان، يقول (لوثر)
 " لو أن الله كان جالساً وحده مثل حطبة في السماء لما كان الله" ( ) .

إن صورة العلاقة بين الإنسان والله يحددها (لوثر) على نحو أن الإنسان إذا كان عدماً أمام الله، فالله خلافاً
 لذلك لا يمكن أن يكون الله من دون الإنسان، كما أن السيد ليس سيداً من دون خدمه، ولا الأب أباً من دون أولاده( ).

 أولريخ زونجلي والإصلاح البروتستانتي في سويسرا :

شهدت سويسرا-المكونة من ثلاث عشرة مقاطعة-في القرن السادس عشر مجموعة من الشخصيـات تدعـو إلى
إجـراء إصـلاح ديـني وسياسـي عـام فـي معظم أرجـاء سويسرا ، ومـن أبـرز تلك الشخصيـات (زونـجلي) ،
(هالـر) *
(أزوالد ميكونيوس) (أكولامبديوس) ( ليوجودا) و (كابيتو) وقد كان زونجلي واحداً من أهم
هؤلاء المصلحين الذين تتلمذوا في دراستهم لعلم اللاهوت على يدي اللاهوتي السويسري (توماس وتنباخ) الذي
لم يكن يخفي عن تلاميذه أخطاء كنيسة روما مبشّراً بالإصلاح من خلال دعوته بالعودة إلى الإنجيل والإيمان
 بوحدانية التضحية التي جسدها المسيح بنفسه عندما تعرض للموت على خشبة الصليب،بقوله:" إن الساعة لا
بد آتية وهي ليست بعيدة، فيها يطرح علم اللاهوت المدرسي جانباً، وتنهض من جديد تعاليم الكنيسة الأولى"
وأن موت المسيح هو الفدية الوحيدة عن الإنسان ( )،هذه الأقوال وغيرها، أسهمت في تعميق الوعي بضرورة
 قيام إصلاح ديني عام في الكنيسة الكاثوليكية، والعمل من أجل إنشاء كنيسة المسيح الأولى التي لا تتبع لأحد
سوى المسيح نفسه، وقد عزز هذا الوعي مشاهدة (زونجلي) لنتائج السياسة العميقة والعادة الذميمة التي تدفع
بجيوش المواطنين السويسريين لخوض غمار معارك لحساب ممالك أخرى، ولفض منازعات بين روما وخصومها
لا مصلحة لسويسرا بها، فبأمّ عينيه رأى كثيراً من مواطنيه الشجعان يذبحون ويجندلون صرعى فيما وراء الألب،
 في سبيل الدفاع عن بابا جشع طماع عديـم الإيمان، وقد أثّر في نفسه رؤية هذه المشاهد، وملأته بالغيظ والسخط
 الشديد، فارتفع صوته للتنديد بهذه العادة وقد أفلح في جعل كثير من المقاطعات في التخلي عنها، وكان ما قد رآه في
 إيطاليا – هو نفس ما رآه (لوثر) من قبل –( ) من كبرياء وأُبهة الأساقفة وجشع وجهل القساوسة واستباحة
الرهبان للمحرمات أن عزز الإيمان لديه بضرورة محاربة مفاسد روما وبلاطها البابوي على السواء، فاعتلى
المنبر و دعى بعزم وتصميم إلى العمل ضد تلك المفاسد، وإلى تخليص الكنيسة من المساوئ التي ألمت بها
 والانطلاق من الكتاب المقدس في محاكمة جميع الأمور والقضايا الدينية ولكن بطريقة هادئة نسبياً إذا ما قورنت
 بطريقة (لوثر)( ) .

صحيح أن التركيز على إصلاح مؤسسة الدين المسيحي كان من القضايا الجوهرية في خطاب (زونجلي)
في سويسرا، لكنّ نمو الروح القومية لدى السويسريين، بخاصة بعد نجاح المقاطعات السويسرية في صدّ
الهجوم الذي قام به (شارل الجسور) عام 1477م قد



أزداد إلى حد شجع على مقاومة المحاولة التي قام بها (مكسمليان) لإخضاعها اسماً وفعلاً للإمبراطورية
الرومانية المقدسة ( ).
وعليه فقد اجتمعت إرادة الانفصال السياسي والديني عن روما مع إرادة إصلاح الدين المسيحي وتخليصه من
 المفاسد التي ألمت به من جراء الهيمنة البابوية عليه، تلك الهيمنة التي اتسمت بالانحلال والفساد طيلة قرون
من الزمن .
 الآراء الإصلاحية لزونجلي:
ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بين (زونجلي ولوثر وكالفن)؟
اتخذ الإصلاح الديني في سويسرا مظهراً يختلف نوعياً عن مظهره في ألمانيا
ـ بزعامة (لوثر) ـ فبينما عارض (لوثر) كسر الأيقونات في (كنائس فيتمبرج)،كانت الأصنام تتساقط في
هياكل (زيورخ)( ) في حضرة (زوينكلي) وبينما آثر (لوثر) أن يبقى متحداً مع كنيسة الإعصار السابقة
وأن ينقّيها من كل ما هو مضاد لكلام الله، فإن (زونجلي) تجاوز ذلك فرجع إلى الأزمان الرسولية واجتهد
 في أن يرد الكنيسة إلى حالتها الأصلية محدثاً تغييراً تاماً فيها ( ).
وبينما توجه (لوثر) في إصلاحه إلى محاربة العنصر اليهودي في العقيدة، فإن (زونجلي) ركز جهده على
 محاربة العنصر الوثني الذي جعل من القديسين أنصاف آلهة نتيجة القول بإله غير متناه ، ويتفق (زونجلي)
مع (لوثر) في قبول اللاهوت الأساسي للكنيسة، القائم على أساس التسليم بوجود إله ثلاثي التوحّد والقول
 بهبوط (آدم وحواء) من الجنة وتجسد الأقنوم الثاني، بصورة إنسان، وولادة العذراء والتكفير، ولكنه فسر
(الخطيئة الأصلية) ليست على أنها إثم ورثناه من (آبائنا الأوائل) "ولكن على أنها نزعة غير اجتماعية تكمن
 في طبيعة الإنسان" ( ) خلافاً لفهم (لوثر) و (كالفن) الذي تكون الخطيئة الأصلية بمقتضاه استمراراً لخطيئة
 (آدم وحواء) حتى أخر إنسان يولد.
أما ما يتعلق بالخلاص فقد أظهر (زونجلي) اتفاقاً في الرأي مع (لوثر) بأن الإنسان لن يستطيع أبداً أن يحصل
 على الخلاص بالأعمال الصّالحات فقط، بل يجب أن يؤمن بالقدرة التكفيرية لموت المسيح المقترن بالتضحية
( ). وعلى أساس هذا الفهم فقد
أعلن - كما أعلن (لوثر) - عن الخلاص المجّاني القائم على الإيمان بالمسيح بدون أي استحقاق لأي حج أو نذر
 أو تقشف أو صك غفران، مركزاً على أن الله مصدر الخلاص وأن الله هو، هو، في كل مكان بقوله: "لا تتصوروا
 أن الله موجود في هذا المعبد أكثر من وجوده في أي مكان آخر في الخليقة، إنه مستعد أن يسمع صلواتكم وأنتم في
 بيوتكم كما وأنتم في ( أينسدلن ) ـ وهي مدينة سويسرية ـ هل تستطيع سفرات الحج الطويلة أو التقدِمات أو الصور
 أو التشفّع بالعذراء أو القديسين، أن تحصل لكم على نعمة الله؟ ماذا تعني أو تفيد الكلمات التي نصوغها في صلواتنا؟. أية قيمة أو كفاية يمكن أن تكون لقلنسوة لامعة أو رأس محلوقة ناعمة، أو رداء فضفاض طويل، أو حذاء مطرّز مذهّب…؟
الله ينظر إلى القلب ولكن، و أسفاه قلوبنا بعيدة عنه" ( ) وعليه فقد أخذ (زونجلي) مواقف ضد مزاعم بائع صكوك
 الغفران (شمشون) وضد أخلاقه الشخصية الأمر الذي قضى على مهمة (شمشون) بالفشل مما دفع به إلى الرحيل بعد أن كُلّف (زونجلي) مع آخرين بطرده من الكنائس( ) التي يتردد عليها
لقد وجد الإصلاح الديني في (زيوريخ وجنيف) سبيله إلى الحياة قبل ظهور أفكار (لوثر) ببضع سنين وقد ساعد
في ذلك سيادة السلطة الزمنية على السلطة الدينية، مما جعل الطريق ممهداً أمام ظهور دعوة (زونجلي) ووضع
 الأسس المختلفة التي تزيل الخلاف بين الكنيسة والدولة، وتجدر الإشارة إلى أن (زونجلي) قد تمكن مع والده
 من أن يكوّن نزعة إنسانية وأفقاً متسعاً ـ أسهم فيهما (أرازموس) رائد النـزعة الإنسانية في أوروبا في القرن
السادس عشر وأستاذه (توماس فتنباخ)، تميز بهما بجلاء عن كل من (لوثر) و(كالفن)، وليس بخاف مدى الأثر
 القوي لثورة (لوثر) ورسائله ورسالة (هس) عن الكنيسة، في نفس (زونجلي)، فقد هاجم الرهبانية والمطهر،
والتوسل بالقديسين، وبرهن على أن دفع ضرائب العشور للكنيسة يجب أن يكون بمحض الاختيار لا بالإكراه
وفقاً لتعاليم الكتاب المقدس( )
ومن شأن نظرة فاحصة أن تظهر حقيقة آراء (زونجلي) الإصلاحية التي يمكن إجمالها في منح الإنجيل أهمية
قصوى بوصفه المرجع الأوحد والأخير للعقيدة المسيحية ،بغض النظر عن رضا الكنيسة أم لا، فهو مصدر
 الحقيقة بأكملها في وضوح وجلاء، ذلك أن (المسيح) هو الكاهن الأعظم الوحيد الخالد، وعليه فلا قيمة ترتجى
من الكنيسة إذا ما قورنت بالإنجيل نفسه، يقول زونجلي: " إن الإنجيل هو دستور الإيمان الوحيد وإنّ الزّعم بأنه
 يتوقف على موافقة كنيسة روما هو زعم خاطئ، إن المسيح هو رأس الكنيسة الوحيد والتقاليد جميعها يجب أن
 ترفض" ( )، وهذا الفهم ينطوي على انكسار للسلطة المقدسة للبابا، الذي جعلت منه الكنيسة الكاثوليكية وريثاً
وحيداً للمسيح، أما التقاليد فهي من وجهة نظر (زونجلي) بدع دخيلة على الدين المسيحي يجب رفضها، ومنها
 القداسات وتناول القرابين المقدسة فيها، فالعشاء الرباني ليس ذبيحة بل هو فقط تذكار لذبيحة المسيح، وأن الأطعمة
 لا قيمة لها ( )، وعليه يمكن تناول الطعام في جميع الأوقات، مما جعل الكنيسة الكاثوليكية في روما والبابا ينظران
 إلى هذه المواقف وغيرها على أنها هرطقة يجب معاقبة (زونجلي) عليها بأشد العقوبات قسوة، و(زونجلي)
 بموقفه هذا يمثل افتراقاً عن موقف كل من (لوثر) و (كالفن) اللذين يقولان بوجود نوع من الشراكة بين العناصر
 المادية للخبز والنبيذ والعنصر الروحي المتمثل بحلول روح السيد المسيح فيهما فترة مراسم القداس، حلولاً سرياً
غير ظاهر للعيان، في حين تؤكد العقيدة الكاثوليكية باستحالة العناصر المادية للقربان المقدم إلى جسد ودم المسيح
نفسه استحالة كاملة، وهو ما يجعل منه قرباناً مقدساً.
أما الموقف من وسائل التكفير والغفرانات التي تفرض على الناس فهي عند (زونجلي) اختراع بشري لا قيمة له
البتة في الحصول على الخلاص( )، وهذا إنكار صريح لطقس آخر من طقوس الكاثوليكية، التي أجازت لكاهنها
البابوي سلطان مسح الخطايا وقبول الغفران، وبعد التفكير بواسطة الاعتراف والندم والتوبة. أن الله غافر الذنوب
 وحده، فلا قيمة للاعتراف السري من وجهة نظر (زونجلي) أما جهنم فهي حق والمطهر خرافة وهو مهنة
مربحة لمن ابتدعوه، و (زونجلي) برفضه منح القرابين والكهنة سلطان الله في غفر الذنوب والخطايا، لم ينكر
نفع القرابين المقدسة بوصفها رموز نافعة للتقرب من رحمة الله، وليست كمعجزة، وعليه فقد حافظ على القربان
 المقدس باعتباره جزءاً من الصلاة التي يقرّها الإصلاح الديني وناول القربان بالخبز والنبيذ معاً ولكنه لم يناوله
 إلاّ أربع مرات في العام، واستبدل به العظة الدينية في باقي السنة" ( )
أما الزواج، فإن الله لم يحرّمه على أي طبقة من المسيحيين، وبالتبعية فمن الخطأ تحريمه على القُسس الذين
 أصبحت عزوبتهم سبباً للاستباحة والأخلاق المنحطة ( ) وعليه فإن الزواج مباح لكل الناس، لأنه من مبيحات
 الله وأنه لا أساس للسلطة الروحية المسماة بـ (الكنيسة) في الكتب المقدسة وفي تعاليم المسيح.
أما السلطة الزمنية فتؤيدها تعاليم المسيح وسنّتَه، وتحريم الزواج الشرعي على القساوسة هو أعظم فرية ( )
 وهو بهذا يلتقي مع (لوثر) و (كالفن)، أما الخلاص، فمصدره الإيمان بالله، لأن الله وحده المخلص والمنجي،
 وهو وحده يستطيع أن يغفر الخطايا ولا الخطايا ولا تتكلم كلمة الله عن شيء اسمه المطهر( ) وهذا إنكار آخر
 لمبدأ من مبادئ العقيدة الكاثوليكية التي ابتدعتها الكنيسة، وعليه يتوجب على جميع الرؤساء الروحيين أن يبادروا
 بالتوبة، وأن ينصبوا صليب المسيح وحده وإلا هلكوا ( )

أما ما يتعلق في حرية الرأي، فليس من الجائز اضطهاد أي شخص لأنه عَبّر عن آرائه الخاصة، بالمقابل يحق
للحكومة أن تمنع نشر الآراء التي من شأنها إزعاج الأمن والسلام العام ( ) .
وبمقتضى ذلك يمكن لجمهور المؤمنين أن يقرروا بأنفسهم تفسير الآية وكيفية فهمها، أما الكنيسة فليست سوى
 مؤسسة ديمقراطية تذوب في الدولة الديمقراطية( )، وبذا أرسى مبدأ أساسياً من مبادئ الديمقراطية القائمة
على احترام حرية الرأي والتعبير والفردية،وبذا فهو يلتقي مع (لوثر) الذي وقف ضد إعدام الهراطقة بمجرد
 اختلافهم في الرأي مع الكنيسة،وطالب بالتسامح معهم ومعاقبتهم بذات الوسيلة من خلال الكتاب والقلم. ويفترق
 عن (كالفن) الذي يُخضع الفرد خضوعاً تاماً لمراقبة سلطة رجال الدين وعدم السماح له بإشاعة أفكار تتناقض
 مع الكنيسة مما جعله يسهم في استصدار قرار بإعدام المفكر اللاهوتي (ميشيل سرفيتوس)  .
ومما ينسب إلى (زونجلي) تشكيل هيئة من العلماء ورجال الدين لإعداد نسخة بالألمانية من الكتاب المقدس، كذلك
 إصدار الأوامر بالعودة إلى العهد القديم، الأمر الذي يعني عودة المسيحية البروتستانتية إلى تقاليدها اليهودية الأولى، وقد أمر مجلس مدينة (زيورخ) برفع كل الصور الدينية من كنائس المدينة امتثالاً للوصية القائلة: "لا تصنع
لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من أسفل ولا مما في المياه من تحت
الأرض" ( ) وهكذا تركز جهد (زونجلي) على محاربة العنصر الوثني في العقيدة الذي جعل من القديسين أنصاف
 آلهة بينما توجه إصلاح (لوثر) إلى محاربة العنصر اليهودي خلافاً له، ومضى (زونجلي) إلى أبعد من ذلك،
 حيث اقتصرت العبادات لديه في كثير من الأحيان على قراءة التوراة أو الموعظة الدينية )( )، لكن موقفه من
 تحطيم التماثيل تغير اقتناعاً منه بأنّ حجب التماثيل أو تحطيمها يعني فيما يعني اعترافاً ضمنياً بما تتلبسه التماثيل
من قوة خارقة، قد يقود التطرف في التعامل معها إلى تشجيع الاتجاهات الوثنية لدى فئة كثيرة من الناس، فيتوجهون
 إلى التبرّك بها وعبادتها بعد نزع القداسة عليها. لذلك سمح للكنائس القروية في المقاطعات بأن تحتفظ بتماثيلها
إذا كانت هذه رغبة جموع المصلّين، كونها في النهاية أعمالاً لا تضر و لا تنفع، من ناحية ثانية شكل مجلساً
 خاصاً في (زيورخ) عام 1524م. يتكون من ستة أعضاء لفض المشاكل العاجلة و الدقيقة التي تعاني منها
 الحكومة ( ).
وعلى غراره سيشكل(كالفن) مجلساً مصغراً من مجموعة أعضاء يطلق عليها اسم (الأعضاء المبجلين) أو
 (الجماعة الموقرة). للبتّ في أمور العقيدة و الحياة ولا يسعنا في اختتام الحديث عن (زونجلي) سوى القول
 بأنه كان رجلاً مفكراً نذر نفسه في سبيل المبادئ التي دعا إليها، فقتل من بين 500 رجل من أهل (زيورخ)
سنة 1531م. وهو في السابعة و الأربعين من عمره ( ).

 (جون كالفن) والإصلاح البروتستانتي في فرنسا و جنييف:
خلال السنوات الثمانية والعشرين، الواقعة بين وصوله الأول إلى جنيف في عام 1536م. وموته في عام 1564م
 عالج (كالفن) مسائل لا تحصى بوصفه بطل الإصلاح وداعيته في الخلاف مع الخصوم الكاثوليك الرومان وكمتأمل
 في النـّزاعات الداخلية، ومناصرتها في ألمانيا وسويسرا ،وكملهب ومشرف عام على النشاط التبشيري في موطنه
الأصلي وأراضٍ غربية أخرى، وكدبلوماسي فعال للسياسات الدولية لفترة طويلة قبيل وفاته عام 1564م.فلم تعد
 (جنيف) مجرد مدينة للجوء الكثير من المضطهدين من الأصقاع المختلفة ، لكنها أضحت مركزاً لرئاسة الحركة
البروتستانتية المشتبكة في حرب
بهذه الأراضي مع الكنائس في روما (1)،وهكذا بات في مقدورنا منذ عام 1529م تسمية حركة الإصلاح الديني
 الأوروبي باسم ( الحركة البروتستانتية) التي لم تتوقف عن التطور والتحول، فقد أصدر ملك إنجلترا
 (هنري الثامن) (قانون السلطة العليا) ووضع بذلك الأسس التي قامت عليها كنيسة قومية وطنية في إنكلترا،
 هي (الكنيسة الإنجليكانية)، الملك فيها هو الرئيس الأعلى للكنيسة مع كل ما يستتبع ذلك من سلطة روحية،
 أما الفرنسيون البروتستانت فقد وضعوا وثيقتين بروتستانتيتين هما "الأهاجي *التي ظهرت عام 1534م.
و"المؤسسة المسيحية " * 
التي هي من وضع (كالفن) نفسه عام 1536م، فقد كان الفرنسيون البروتستانت قد لجأوا إلى مدينة (نيوشاثل)
 في سويسرا التي تلتزم بتعاليم (زونجلي) ونظرياته، بينما كان (كالفن) قد أثار من جديد مطالب الإصلاح
 البروتستانتي، مضيفاً إليها نظريات جديدة بعد تمكنه من تجنب " المثالب التي وقع فيها كل من لوثير وزونكلي" (1).
 فلسفته ونظامه الديني:
جعل (كالفن) جلّى همه " الحفاظ على سلطان الله وسيادته" وهو بوصفه من أتباع الفلسفة الاسمية، يجزم أن الله تتعذر معرفته. هذه اللاعرفانية ترى أنّه يستحيل على العقل البشري تفهمه وإدراكه حتى ولو بالمجاز، فالصور التي نقيمها
له وننحتها عنه في ضمائرنا هي حماقة لا أكثر ولا أقل فالكتاب المقدس وحده يوحي لنا على قدر ما نستطيع
 أن نفهم ونستوعب وفيه ما يكفي لإثارة الخوف والمحبة فينا… وبواسطة الكتاب المقدس وحده نتعرف إلى
 الله عن طريق يسوع المسيح وبيسوع المسيح مرآة الله، ولكن أنى لنا أن نعرف الله نفسه معرفة حقيقية،
ولنفهم الكتاب المقدس حق الفهم يجب الاستعانة بالروح القدس لأنه يجعل الكتاب المقدس سهل التناول" (2).
وعليه يصبح الكتاب المقدس المرجع الأعلى في الحياة كما هو الحال عند (لوثر). مع فارق جوهري بينهما يتمثل
 في إيلاء (لوثر) الأهمية للإنجيل على التوراة، بينما يرفض (كالفن) إيلاء التوراة منـزلة أقل شأناً من الإنجيل
 وإنما يساوي بينهما مساواة تجعل منهما كتاباً واحداً، ودرس (كالفن) القانون بغبطة شديدة ورأى أن القانون
وليس الفلسفة أو الأدب هو أبرز نتاج فكري حققته البشرية ،وأنه يصوغ نوازع الإنسان الفوضوية ويحولها إلى نظام وسلام.
 في ميدان اللاهوت:
نشر (كالفن) في ميدان اللاهوت "مبادئ الدين المسيحي" باللغة اللاتينية سنة 1536م وأعاد نشره معدلاً سنة 1539م، ثم ترجمه إلى الفرنسية عام 1541م، ويعد من أعظم ما أنتجته القرائـح تأثيراً في النـثر الفرنسي ، ومن خلاله حاول استمـالة الملك فرانسيس) ـ ملك فرنسا آنذاك ـ حيث استهلت الطبعة الأولى من الكتاب
بـ " مقدمة إلى أعظم ملك مسيحي لفرنسا" (1)، وهي مقدمة تفيض بالمشاعر وبأسلوب رصين، وكان الأمر
 الملكي الصادر عام 1535م. ضد الفرنسيين البروتستانت ودعوته (لميلانكتون) و(بوسر) ـ وهما من كبار
 رجال الإصلاح الديني في ألمانيا ـ للحضور إلى فرنسا لترتيب تحالف بين الأمراء اللوثريين ضد (شارل الخامس)
 مع الملكية الفرنسية، أن هيأ لـ (كالفن) ظروف حوار جادة ـ مع الملك(فرانسيس) ـ ، يقول كالفن: " لقد عرضت
اعترافي عليك لكي تعلم طبيعة تلك العقيدة التي يستهدفها هذا الغضب … وإني لأعلم جيداً الدسائس الأثيمة التي
 ملأوا بها أذنيك لكي تبدو قضيتنا بغيضة جداً في نظرك… وأنت يا مولاي تستطيع أن تتبين الوشايا الزائفة
وهي تفتضح كل يوم… نحن الذين لم يسمعنا أحد نفوه بكلمة واحدة تثير الفتنة، نحن الذين عرفنا طوال حياتنا
أن نعيش حياة هادئة مستقيمة عندما كنا نعيش تحت حكمك ولم نكفّ عن الصلاة لك بالنجاح، ولمملكتك بالرخاء،
وإني لأدعو الرب ملك الملوك أن يوطد عرشك بالعدل والتقوى، وأن يعم في مملكتك القسط والإنصاف " (2) .
لقد كان كالفن رجلاً هائماً في حب الله، وكان يغلبه شعور بضآلة الإنسان وعظمة الله، أما الكتاب المقدس، فهو كلمة
 الله، وقد أظهر الله نفسه فيه، رأفة بعقل الإنسان، وعليه فالمرجع النظري الكالفاني هو التوراة، بوصفها السلطة
 السامية المعصومة عن الخطأ في جميع الأمور،أمّا موقفه من العقل فيتّضح من خلال وصفه له بـ "الزندقة،
 والانحراف والفجور ويصدر عنه ما هو فاسد وخبيث… إن العقل يظل دائماً متورطاً في النفاق والخداع،
 والقلب يظل عبداً لانحراف الباطني" (3 ) ويسلّم (كالفن) بأنّ حتمية القدر تتنافى مع العقل، وعليه فإنّ أي
محاولة لتقصّي الأمور التي قرر الرب أن يخفيها عنا من جانب البعض لن تفلت من العقاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق